جائحة القُدس
بدأتُ أجزَعُ .. بدأتُ أستَشعِرُ جائحَةَ القُدسِ .. استشعرُها كالآلام تَماماً .. بل واستحضرها أيضاً .. وفي كُلِ زمانٍ و في كُلِ مَكان.. صِرتُ أتأملُ حَال القُدس .. نَعم .. أتخيلها في كُل لحظة .. لم يكن هذا من دأبي في العادةِ سالفاً .. لم يَكن الأمرُ بذلك القَدْر .. حتى لقد صِرتُ كالهِجيريّ الذي ليسَ لي من الأمر إلاّ أن يُنادي : القدسُ في جائحة .. القدسُ في جائحة ..!
هي كذلك .. هي تُنادى .. وتُردد خلفي مُدويةً أنها في جائحة .. إلاّ أنها لا تظفر بشيء من الجواب ! .. ولا أجزاء الجواب ! .. حتى لقد خِفتُ على نفسي أن أكون ممن جَلحَ في السكوت .. أو شاركَ في الصموت .. بل أمسيتُ أخشى أن تكون الأمةُ كُلها جَالحةً في السكُون والركون أيضاً .. فعندها ليس لي من الأمر إلاّ أن أُكفن .. وأكبرُ أربعاً مودعاً جَنازة الأمة .. فماذا بقي بعد الجَزع .. سوى انتظار لحظاتِ الفزع ؟ ماذا بقي .. بل ماذا ننتظر .. ؟
لم يبقى شيء سوى أن تسقط القدسُ في مكانها ملففة بأكفانِ الدموع .. ونحن نظر .. ثم نجمعُ ركَامها بعد أن يرقُصَ اليهود على عتباتها وأحجارها .. ونسوقها .. ونقودها بغبارها إلى مَقبرةِ الشُهَداءِ في غَزة .. ونحن ننظر .. ثم نَحفرُ لها بحسراتنا قبراً بجانب الشهداء .. ونُنزلُها .. وَنُهدهِدُ على جُثمانِها برفقٍ وأناة .. فَهي مُقدسة ! .. ونحن ننظر .. ثم نودعها .. ونُكبر معاً عليها أربعاً .. وأحسن اللهُ عزائنا .. ثُم نتصافحُ مودعين بعضنا .. وننتظر معاً جنازةً أخرى .. !
سوف أبكي .. سوف أبكي بقلبي وعينيّ معاً .. سوف أبقى ثاوٍ في مكاني أكابد الحسرات .. واحتسي العبرات .. وأنطقُ الهَمسات .. إلى أن أغرق في دموعي .. أُفضِّلُ ذلك .. وأُفضِّلهُ لغيري على أن نرى القدس أحجاراً متراكمةً يدوسها اليهود .. في حِقدٍ جَحود .. أو ينهشوا من لحمها .. أو يُدنسوا مَجدها .. ونحن ننظر .. ثم يأكلوها .. ويتفلوا العِظامَ في وجهنا لنكفنها .. ثم ندفنها .. أُفضِلُ أنواعَ النَكالِ على أن اسمع القدس تَبكي .. أو أن أرى القدس تَحتي .. محطمةً ومدمرة .. نعم !.. وأُفضلُه لغيري كذلك ..
إنّ الذي هَز كياني .. وعذبني في الفراش أياماً وأيام .. وأسقاني آلاماً وآلام .. وربما زادني من تِلكُمُ الأوهام.. هي تَصريحاتٌ وتوقعات .. ودراساتٌ واستنتاجات .. تَقول ويا فَزعاً لما تَقول : بأن قُدسَنا مُهدد .. وأنه على شفا انهيار .. وعلى عتبة الدمار .. وأن الأعداء به يتربصون .. و تحته يحفرون .. ويُخَرّبون ويَهدِمون .. ويهددون ويُرعدون !.. اللهم سَلم سَلم ..
لا بُد من الحِراك .. ولا بُد من العِراك .. ولابُد بأن نُردد مَعاً وبصوتٍ هَزيمٍ وزَلزَال .. قَولَهُ جَلَ وَعزَ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ .. ولابُد أن نُرسل السيوف لإخواننا هُناك .. ونَكتب عَليها سَوياً بأحزانِنا : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .. لا بُد من ذلك .. لابُد من القتال .. ولابُد من النِزال .. ولابُد من زِلزال .. نُعيد فيهِ العِزة .. ونُشعِلُ الشُموعَ في أرجاءِ غَزة .. لا بُد ولابُد ..
إذاً ! .. فلنُشمر جَميعاً .. ونتكاتف .. ونتعاضد .. فإن لَم نَحمي قُدسَنا فمن يَحميه ؟ .. وإنّ لم نَفكَ أسرهُ فمن يفديه ..
فإن عَجِزنا عَن إثباتِ القُدسِ من الانهيار .. فلنتكافل مَعاً .. وَنجتَمعُ كُلنا تَحته ! .. ونرفعُ أيدينا .. ونرفعُ أبصارنا .. وننتظر متى يُهدم .. حتى نَتلقفهُ بالأيادي .. ثُم نَبقى نَحملهُ حتى نَموت تَحتَ أحجارهِ .. وأحسنَ اللهُ العَزاء يا قُدسنا الغَرّاء ! .